الأغنية الشعبية الفلسطينية- سلاح المقاومة وهويةٌ لا تُمحى

المؤلف: د. عمار علي حسن11.07.2025
الأغنية الشعبية الفلسطينية- سلاح المقاومة وهويةٌ لا تُمحى

لعب التراث الفلسطيني الوطني دورًا محوريًا في ترسيخ شعور الانتماء العميق للأرض والتاريخ، وأضحى بمثابة سجل حافل ومتواصل للنضال الفلسطيني، يتجاوز في ثرائه التاريخ الرسمي، مما حافظ على جذوة الانتماء لفلسطين متقدة. ونتيجةً لذلك، واجه هذا التراث محاولات إسرائيلية حثيثة لإضعافه وتشويهه وتزويره ومحوه وطمسه وسرقته، بل وتهويده، بهدف قطع الصلة الوثيقة بين الفلسطينيين وأرضهم وتاريخهم العريق، أو منعهم من الاستفادة من الزخم الهائل الذي يمنحه هذا الموروث الشعبي في إشعال الحماس في نفوسهم، وتسجيل مآثر كفاحهم، وتثبيتهم بقوة أكبر حول قضيتهم العادلة.

هناك جنود مجهولون لا يرتدون الزي العسكري، ولا يحملون السلاح، بل "ينخرطون في عمل من نوع آخر، عمل خفي يتمثل في تحريف كتاب أو وثيقة، أو طمس حجة أوقاف"، وبذلك "يرتكبون بين السطور والكلمات والأختام جريمة قتل من نوع مختلف، تفوق خطورتها طلقة البندقية، ودانة المدفع، وقنبلة الطائرة"، وذلك بحسب الوصف الدقيق الذي قدمه إسماعيل شيخي أوسي في دراسته القيمة بعنوان: "التراث الثقافي الفلسطيني بين الطمس والإحياء".

لقد سلكت إسرائيل دروبًا شتى لإخماد فاعلية هذا السلاح المعنوي، من خلال الاستيلاء الغاشم ووضع اليد على التراث الفلسطيني وسرقته، والتضييق الخانق على أصحابه وحصارهم، ومصادرة الوقف الذي يخصص للإنفاق عليه، وتشويه بعض نصوصه الثمينة، والتركيز المغرض على الجوانب الهامشية والسطحية والخرافية والمتصلة بالإسرائيليات فيه.

وإذا كانت إسرائيل قد نالت من التراث المادي الفلسطيني، سواء كان ثابتًا أو منقولًا، وسواء كان داخل فلسطين أو خارجها، من عمران بأشكاله المتنوعة، وأدواره المتعددة، وكذلك الحرف اليدوية والصناعات التقليدية والأزياء الشعبية الأصيلة، فإنها لم تحقق النجاح ذاته في مواجهة التراث اللامادي - المتمثل في الممارسات والطقوس والموارد الثقافية والمعارف والفنون والعادات والتقاليد - الذي حفظته الذاكرة الجمعية، وحملته النفوس بأمانة، وطورته العقول النيرة وأضافت إليه.

التراث الشفاهي

من بين ألوان الفلكلور الفلسطيني الزاهية يبرز نوع شفاهي فريد، يتجدد باستمرار، ويتطور مع مرور الزمن، وليس بمقدور إسرائيل أن تنتزعه من الذاكرة، أو أن تضع بديلًا عنه على الألسنة، ألا وهو "الأغنية الشعبية"، التي صاحبت نضال الشعب الفلسطيني منذ بداياته الأولى، وحتى هذه اللحظة الراهنة.

وقد اتخذت الأغنية الشعبية الفلسطينية، كما يرى ضرار أبو شعيرة – الذي جمعها بحب وشغف في كتاب قيّم تحت عنوان: "دليل الأغنية الوطنية الفلسطينية.. فكر ومقاومة" – ثلاثة مسارات متميزة؛ المسار الأول يتمثل في إلهاب حماس الجماهير وتثويرها، وهنا تتجلى الأغنية كبيان حماسي أو نداء عال النبرة، يخاطب المشاعر قبل العقول، فتأتي حافلة بالصور الصارخة التي تعكس معاناة الشعب، وتخاطب كل فئاته وشرائحه المختلفة.

أما المسار الثاني، فهو الذي يواكب الأحداث الجارية، أو التطورات التاريخية لحركة التحرر الوطني، أو الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة؛ لتصبح الأغنية بذلك جزءًا لا يتجزأ من المقاومة السلمية، وطرفًا فاعلًا في سجل النضال المتواصل، مما يجعلها متابعة دقيقة للحدث، ومعبرة عن تفاصيله.

والمسار الثالث هو التعبير الصادق عن القيم الأساسية للفعل المقاوم، الذي يجب أن تلتزم به القوى الفاعلة في الساحة الفلسطينية، مثل الحرية والشجاعة والبطولة والفداء والتضحية، ولهذا تنحو الأغنية إلى التربية والوعظ الديني والسياسي.

إن الأغنية الشعبية الفلسطينية ما هي إلا قصيدة يتداولها الناس جيلًا بعد جيل، محافظين على كلماتها وإيقاعها العذب، وهي تكرس مفاهيم أخلاقية ودينية رفيعة، وتسجل بطولات الشعب ببسالة، وتحضه على النضال والجسارة، وتحفظ ذاكرته متقدة حيال الشعب والأرض والتاريخ، وهي تصاغ في قوالب لحنية آسرة مثل: العتابا، والدلعونا، والهجيني، والسامر، والترويدة، والحدادي الذي يُغنّى في المناسبات الاجتماعية والوطنية، بل إن هذه الأغنية قد رافقت مسيرة الكفاح الثوري الفلسطيني منذ البداية، كما يرصد ذلك رمضان عبدالهادي في كتابه القيم: "الفلكلور الفلسطيني .. بصمة لتأصيل الهوية".

فمع "ثورة البراق" عام 1929 انطلقت الأغنية الشعبية لتدون بمداد الفخر بطولة ثلاثة من الفدائيين الأبطال؛ هم: حجازي وجمجوم والزير، الذين كانوا أول ثلاثة شهداء فلسطينيين، وقد خلد المغني الشعبي واقعة إعدامهم المأساوية في أغنية من "الدلعونا" تحمل أسمى معاني الاستنكار، وتطلب من الله - عز وجل - الانتقام للمظلومين، حيث تقول:

"من سجن عكا وطلعت جنازة

محمد جمجوم وفؤاد حجازي

جازي عليهم يا رب جازي

المندوب السامي وربعة عمومًا".

ولهذه الواقعة المؤلمة أيضًا، صدحت النساء بالأغاني فور رفع الأعلام السوداء على سجن عكا، الذي شهد شنق هؤلاء الفدائيين الثلاثة:

"هي ويا .. والمشنقة تاجك

هي ويا .. والقيد إلك خلخال

هي ويا .. وموتك عن بلادك عز

هي ويا .. زينة الرجال".

وحين اندلعت ثورة عام 1936، وهجم الثوار على مستعمرة كفر عصيون الإسرائيلية، انطلقت أغنية ترددها الناس في كل مكان:

"على كفار عصيون صار المنادي

يوم عبوس يوم شر واستطاره

حسين عمر بنتخي مثل زيدان

صبيان لعب اليوم عجَّ الغبارة

والحاج ناجي بنتخي أول القوم

يوم عبوس يوم هذا النهاره".

وعندما انطلقت الثورة المسلحة عام 1965 رافقتها الأغاني الشعبية الحماسية، وفي مقدمتها أغنية "العاصفة" التي تبدأ قائلة:

"باسم الله باسم الفتح.. باسم الثورة الشعبية

باسم الدم باسم الجرح .. اللي بينزف حرية".

وكذلك قصيدة "بلادي"، ومطلعها: "بلادي بلادي بلادي .. فتح ثورة على الأعادي"، و أغنية "طريق العزة" التي تبدأ: " أنا كسرت القيد قيد مذلتي .. وسحقت جلادي وصانع نكبتي".

ومع هزيمة عام 1967، التي زلزلت كيان العرب قاطبة، غنى الشعب، في تحدٍ للهزيمة النفسية، العديد من الأغاني التي تبعث الأمل، منها تلك التي تبدأ بـ "طالع لك يا عدوي طالع .. من كل بيت وحارة وشارع"، ومنها أيضًا تلك التي يقول مطلعها:

"طل سلاحي من جراحي .. يا ثورتنا طل سلاحي

ولا يمكن قوة في الدنيا .. تنزع من إيدي سلاحي".

لكن الفلسطينيين لم يستسلموا لليأس، شأنهم شأن المصريين، فخاضوا "معركة الكرامة" عام 1970، التي حققوا فيها أول انتصار لهم على الجيش الإسرائيلي، لتخلد الأغنية الشعبية بطولتهم النادرة قائلة:

"وحدنا الدم يا كرامة .. وحدنا الدم

والشمل التم يا كرامة .. والشمل التم

في حبال النار فدائية .. بين الأغوار فدائية

عاجبين الأرض العربية .. وحدنا الدم

لحرب التحرير الشعبية .. وحدنا الدم."

دور المرأة

وقد أدت المرأة الفلسطينية دورًا بارزًا في مسيرة الغناء الشعبي، لتشجيع المقاومين على مواصلة الدرب، كما في هذه الأغنية التي تقول:

"هالفدائي يا محلاه

دخلك ياما اعطيني إياه

في أيدي باروده

وفي أيده باروده

وع الحدود أنا وياه".

أو تلك التي تعبر عن تصميمها وعزيمتها فتقول:

"بإيدي رشاشي .. فرشتي ولحافي

وأرضنا المحتلة .. ما بترجع بلاشي".

وفي خضم الكفاح المسلح يصدح الفلسطينيون أيضًا بهذه الكلمات:

"والله لاحمل ديكتريوف .. وقلوبنا ما تحمل خوف

تحت حماية جرينوف .. ما بنهاب الطيارة

ولا بنخاف الفارة .. وإن متنا مش خسارة

هذه ثورة شعبية".

أو تلك الأغنية التي تواسي أم الشهيد، وتشد من أزرها، فتقول:

"يا أم الشهيد وقدمني للثورة ولادك .. إحنا ولادك يامَّا وإحنا رجالك".

في الشتات

وليس هذا فحسب، بل إن الهتافات التي تصدح بها حناجر المتظاهرين والمعتصمين تعتمد بشكل كبير على الأغاني الشعبية بمختلف أنواعها، بحيث تتحول المظاهرة إلى ما يشبه العرس الوطني، فنجد أغانٍ من قبيل: "يا صهيوني صبرك صبرك/ في رام الله نحفر قبرك" و"يا أمتنا الوطنية/ بدنا أكثر جدية" و "جابوا الشهيد جابوه/ وبعلم الثورة لفوه/ أنا أمه/ يا فرحة أمه في عرسه/ في ليلة دمه/ يا أخوانه للثورة انضموا/ زغرودة ياللا حيوه".

ولأن فكرة العودة إلى الوطن باتت جزءًا لا يتجزأ من الثقافة السياسية الفلسطينية، يغني الفلسطينيون في الشتات شوقًا للرجوع إلى بلادهم، لكي تنتهي غربتهم المريرة، كما في تلك الأغنية التي تقول: "روح الغايب على بلده/ وانجمع شمله على ولده"، أو هذه التي تقول بلسان حال المغترب:

"يا طير يا غريب يا مروح .. خدني معاك لانوح

غريب ومسافر ع بلادي .. وأنا غيرك حبيبي ما أنادي".

وبالأغنية الشعبية يرسم الفلسطينيون بقلوبهم الحدود الجغرافية لوطنهم الذي طُرد منه بعضهم إلى الشتات، وهناك من يقبعون تحت نير الاحتلال في الضفة الغربية وغزة، ويوجد من يكابدون التمييز العنصري من الفلسطينيين الذين أُجبروا على حمل الجنسية الإسرائيلية. وفي هذا السياق تنطلق هذه الأغنية:

"قلبي يا أربع وديان .. سواقي تقلب ع ميَّه

أولهم يا نهر العوجا .. من بعيد تسمع دويه

ثانيهم يا نهر روبين .. ياما زاروك الزوارة

ثالثهم يا وادي غزة .. ياما زروك الزوراة".

الأغاني الشعبية

بالإضافة إلى الأغاني التي تنبع من حناجر الناس العاديين، ومن خيالهم الجمعي الثري، والتي تتردد على الألسن بشكل عفوي، وتنتشر في الأرجاء، وتمتد عبر الأجيال، قام الفلسطينيون بتشكيل فرق فنية متخصصة تقوم بانتقاء بعض هذه الأغاني وتنظيمها، أو بتأليف أغانٍ جديدة على نفس المنوال، مما يخلق "تغذية مرتدة" مثمرة بين ما يبدعه عامة الناس، وما يبدعه الشعراء الشعبيون الموهوبون.

وكما ذكرت منال محمود في تحقيق صحفي هام بعنوان: "كيف أثرت الأغاني الشعبية في المقاومة الفلسطينية؟"، فقد أسس الفلسطينيون العديد من الفرق الشعبية المتميزة. ففي أواخر سبعينيات القرن العشرين، تأسست فرقة "العاشقين" تحت رعاية منظمة التحرير الفلسطينية نفسها، وقدمت أعمالًا فنية خالدة حول الوطن والكفاح في سبيل استعادة الأرض المسلوبة، وتحرير الشعب المحتل من براثن الظلم. وفي أعقاب ذلك، ظهرت فرقة "بيسان" عام 1979، لتتعهد بالحفاظ على التراث الأصيل من خلال الغناء للأرض والفدائيين الأبطال والشهداء الذين ضحوا بأرواحهم فداءً للوطن.

وفي مطلع الثمانينيات بزغت فرقة "أجراس العودة"، وتناولت أغانيها مواضيع حساسة مثل السجن والغربة واللجوء والبطولة والحنين الجارف للوطن. وقبيل اندلاع انتفاضة الحجارة عام 1987، انطلقت فرقة "العودة"، وجعلت على عاتقها مهمة توظيف التراث العريق في صناعة الفن المقاوم، ودعوة أبناء الشعب الفلسطيني في الشتات إلى العودة إلى ديارهم. وبعد ثلاثة أعوام، وفي يوم الأرض الخالد، تأسست "فرقة القدس" التي تغنت بهذه المدينة المقدسة وأهميتها الروحانية والتاريخية.

وفي عام 1999 تأسست فرقة "شهداء جباليا"، التي دعت أغانيها إلى النضال المستميت من أجل تحرير الأرض واستعادة الحقوق المغتصبة. ومع اندلاع انتفاضة الأقصى، ظهرت فرقتان جديدتان، الأولى هي فرقة "محمد الدرة"، وهي فرقة مستقلة تعمل على تعبئة الجماهير حول المقاومة، وتعريفهم بالقضية الوطنية العادلة. والثانية هي فرقة "الاعتصام" التي استهدفت أغانيها رفع الروح المعنوية للمنتفضين ضد الاحتلال الغاشم. وبعد عام واحد، تأسست فرقة "زغاريد الوطن"، لتعبر عن الهم الوطني بطريقة فنية مبتكرة. وهناك أيضًا فرقة "ناجي العلي" التي كرست جهدها الفني لخدمة قضية التحرير.

وقد جمع "ضرار أبو شعيرة" في كتابه "دليل الأغنية الشعبية الفلسطينية" ثمانين أغنية متنوعة في الأغراض والموضوعات والمجازات والموسيقى والبنية الفنية، ولعل أكثرها تأثيرًا وقوة، سواء على المستوى الفني الرفيع، أو للمعاني العميقة التي تحملها عن شعب عظيم لن يتنازل أبدًا عن حقوقه المشروعة، ولن ينكسر مهما بلغت التحديات وعظم حجم الألم والتضحيات، هي تلك الأغنية التي تقول:

"سنوا عضامي سنوها سيوف

وعيوني عيوني قنبلة مولوتوف

أنا شعب بدمه يشق الليل

ويصنع من لحمه قنابل

ويقاتل ويظل يقاتل

ومن جرحه يسحب سكين

وبصدر العريان يقاتل

دوريات المحتلين

أنا هذا الشعب اللي ما بهدا

وباستشهاده هزم الخوف

أنا شعب شد الأرض بسنانه من قدم الغاصب

ولا يمكن حقي يضيع وأنا دمي وراه مطالب".

لقد أضاف الشعب الفلسطيني اللون الأحمر القاني إلى أزيائه التقليدية، ليكون علامة بارزة على دمه الزكي الذي يُراق بسخاء في سبيل الوطن الغالي، وتنطوي الكثير من أساطيره وخرافاته وحكاياته الشعبية المتوارثة على قيم ومعانٍ عظيمة تدل على مكانة أرضه المقدسة وهويته الراسخة وتاريخه العريق. لذا، كان من الطبيعي أن تأتي أغانيه الشعبية لتصوغَ كل هذا الإرث الثقافي الغني في كلمات وألحان معبرة، تشكل نوعًا فريدًا من المقاومة المدنية السلمية، وتدعو في الوقت نفسه إلى المقاومة المسلحة، وتُلهب حماس القائمين بها، وتبرر مسلكهم النبيل، لتبقى جانبًا نابضًا بالحياة في وجدان الفلسطينيين، ومعبرًا عن مشاعرهم وعقلهم الجمعي.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة